سبعة سعداء روى البخارى ومسلم عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال :
"
سبعة يظلهم الله فى ظله يوم لا ظل إلا ظله
: الإمام العادل ، وشابٌ نشأ فى عبادة ربه ، ورجلٌ قلبه معلق فى المساجد ،
ورجلان تحابا فى الله إجتمعا عليه وتفرقا عليه ، ورجل دعته امرأة ذات منصب
وجمال ، فقال إنى أخاف الله ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله
ما تنفق يمينه ، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه "
(1).
أيها القارى الكريم .. اليومُ يومُ القيامة .. ذلك اليوم الرهيب الرعيب ،
الذى تبدلت فيه الأرضُ غيرَ الأرض والسمواتُ .. الحر شديد ، والزحام كثير..
ودنت الشمس من الرءوس ، وإختلط البشرُ بالوحوش ، والجميع يبحث عن مخرج
لشدة هول الموقف ، فما أحوجهم إلى شئ من ظل يخفف عنهم عناء ما هم فيه..
وفى هذه الأثناء وقفت فئة قليلة من الناس فى ظل الله سبحانه وتعالى..
هؤلاء الذين إصطفاهم الله عز وجل بما قدموا من صالح العمل فى حياتهم الدنيا
، وبما إتصفوا به من جميل الخلال ..
يحدثنا النبى صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه الفئة فى عرض جميل وبيان
قوىٍ أخّاذ ليحركَ نفوسَ أهل الإيمان ، ويبث فيهم روح الجِد والإخلاص
والعمل الصالح فيسيروا على النهج القويم والطريق الراشدة .
فهو أولاً يدعو من تولى أمراً من أمور المسلمين سواء كان أمراً عاماً أم
خاصاً ، صغيراً أم كبيراً أن يراعى العدل ويتجنب الظلم ، فالعدل صفة من
صفات الله عز وجل ، وبالعدل قامت السموات والأرض ، والعدل شريعة الله ،
والله تعالى يمقت الظلم ، وقد حرمه على نفسه ونهى عباده أن يَظَّالموا ،
قال تعالى (
يا أيها الذين آمنوا كونوا
قوّامين لله شهداءَ بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو
أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ) المائدة 8.
ثم يبين صلى الله عليه وآله وسلم للشباب
كيف يكون الإقبال على الله وطاعته وعبادته منذ بدء حياتهم وهم يدرجون فى
مدارج الصِّبا ؛ ليكونوا بعد ذلك رجال المستقبل ، وليحققوا جيلا مثالياً
منشوداً يُصلحُ الله به البلاد والعباد . وهذا يلائم ثناء القرآن الكريم
على هذه الفئة حين قال عن فتية أهل الكهف (
إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى ) الكهف (الآية رقم 13).
كما أن الناظر فى سيرة النبى صلى الله عليه وآله وسلم
وصحبه الكرام يرى أن الدعوة إنما قامت على أكتاف هؤلاء الشباب ، مثل على
بن أبى طالب ، وأسامة بن زيد ، ومعاذ بن جبل ، وابن عباس وغيرهم .
والخصلة الثالثة التى أنقذت هؤلاء من حرِّ ذلك اليوم الشديد ، ونقلتهم إلى
ظل الله الكريم هى إشادة بذلك الرجل الصالح الذى عَمَرَ الإيمانُ قلبه
وإعتاد الغدوَّ والرواح إلى بيوت الله ، فتعلقت جوارحه وقلبه بذكر الله فهو
محافظ على الصلاة فى المسجد ، فلا يكاد يخرج منه إلا تتوق نفسُه إلى
العودة إليه ؛ لأنه ترك قلبه معلقاً فى المسجد ، وفى هذا بعث للهمة لتتشرب
القلوبُ حب الإجتماع والألفة وتتوحدَ صفوفُ المسلمين عن طريق إجتماعهم فى
بيوت الله .
ولقد أثنى الله عز وجل على هؤلاء المحافظين على الصلاة فى المساجد حين قال سبحانه : (
فى
بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال
لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون
يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار . ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدَهم من
فضله والله يرزق من يشاءُ بغير حساب ) [النور آية38:36].
والخصلة الرابعة ( ورجلان تحابا فى الله إجتمعا عليه وتفرقا عليه ) ففيها
دعوة كريمة للحب فى الله إبتغاء وجهه سبحانه ، لا لغرض دنيوى ، ولا لكسب
مادى أو مصلحة ما ، وإنما الدافع الحقيقى هو المحبة الخالصة فى الله عز وجل
، والحديث يبين أن هذين الرجلين إنما إجتمعا على محبة الله وحين إفترقا
إنما إفترقا على محبة الله أيضاً .
والخصلة الخامسة ( رجل دعته أو طلبته امرأة
ذات منصب وجمال فقال إنى أخاف الله ) إن هذه الخصلة تُظهر أسمى ما تصورته
البشرية من طُهر ونقاء ، إنها طهارة الوجدان وصفاءُ الإيمان الذى يعصم
صاحبه من الإنزلاق فى وحل الرذيلة .. إن المتوقع فى مثل هذا الموقف أن يسيل
لعاب الرجل وأن يندفع وراء شهوته لا سيما وأن الداعى هو المرأة وأىُّ
امرأة ، إنها ذات منصب يحقق الأمان من الفضيحة ويُغرى بقضاء المصالح ، وهى
ذات جمال يُغرى بالإندفاع الشهوانى نحو قضاء الوطر ورغم ذلك يمتنع ، لا
ضعفاً و لا خوفاً من أحد ، ولكنه يمتنع خوفاً من الله ولسان حاله يقول (
معاذ الله ) كما قالها يوسف حين دعته امرأة العزيز .
والخصلة السادسة ( عن رجل يتصدق بصدقة ، يخفيها ولا يعلنها ، يسترها ولا
يكشفها ، إنه لا يريد بصدقته ثناء الناس وأن يعرف الناس عنه أنه رجل البر
والإحسان ، وإنما قصدُه ودافعُه هو رضوان الله عز وجل ، ومن ثَمَّ فهو يخفى
هذه الصدقة عن أقرب ما يتصل به ، إنه حين يدفعها بيد ، يخفيها عن اليد
الأخرى التى خلع عليها الحديث صفة العلم والمعرفة ، وشخَّصَها كأنها كائن
بشرى يرصد حركات الآخرين ( فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه ).
ثم يُختم الحديثُ ببيان فضل البكاء من خشية الله تعالى ، فيذكر رجلاً
صادقاً فى بكائه وخوفه من الله ، فهو لم يبكِ أمام الناس ليظهرَ بمظهر
الخائف من الله وتكون حقيقتهُ البعد كل البعد عن ذلك ، وإنما يبكى حين يخلو
بربه فيناجيهِ ، ويعترفُ بما جنت يداه ، ولسان حاله يقول مع القائل ، ولله
درُّه :
خبأتُ كم خبأت آهاتـى وتعلـم كـم أُخـبى
يا سيدى يا صاحبَ الباب الكريم وأنت حسبى
قد هدنى الموج العتىّ وحرت فى دربى وحبى
لتكن عيونك مرفئى إذ ضاع تحت الليل دربى
سامحت موسى قاتلاً وكشفت كـربته بـتوبِ
إنى ببابك أستجيرُ فإن أجـرت فأنت حسبـى
تفيض عيناه بالدمع ، رهَباً من خوف العقاب ، ورغباً فى حسن لقائه بربه .
هذا وبـالله التوفيـق والله أعـلم
وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته
-------------------
أخرجه البخارى فى كتاب الأذان ، باب من جلس فى المسجد ينتظر الصلاة ،
وفضل المساجد ومسلم فى كتاب الزكاة باب فضل إخفاء الصدقة . ح 1031.